مفهوم الجملة في نظر النحاة :
إن البحث في اصطلاح الجملة ، والتأريخ له ، أمران لازمان لمن يتصدى لدراسة الجملة العربية ، فالجملة هي لبنة الكلام المرسل وغير المرسل (1) وعنصر الكلام الأساسي ، فبالجمل نتكلم ، وبالجمل نفكر ، بل هي (قواعد الحديث ) (2). ومن الثابت أن مفهوم الجملة عند بعض قدامى النحويين كان ملتبسا بمفهوم الكلام ، ولم يكن ثمة فصل بين المفهومين ، وقد نص غير واحد منهم على أن الكلام هو الجملة ، قال الزمخشري ( 538هـ) في المفصل : ( والكلام : هو المركب من كلمتين ، أسندت إحداهما إلى الأخرى ، وهذا لا يتأتى إلا في اسمين ، أو في فعل واسم ، ويسمى الجملة )(3 وذهب ابن يعيش ( 643هـ) في شرحه ، مذهب الزمخشري في التوحيد بين مفهومي الكلام والجملة ، فقال :[ ومما يسأل عنه هنا ، الفرق بين الكلام ، والقول ، والكلم ، والجواب : أن الكلام عبارة عن الجمل المفيدة ، وهو جنس لها ، فكل واحدة من الجمل الفعلية ، والاسمية ، نوع له ، يصدق إطلاقه عليها ، كما أن الكلمة جنس للمفردات ] (4)
ولم يعن ابن مالك ( 672هـ) في ألفيته إلا بالكلام ، فقال :
[كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم .
وكذلك شراح الألفية ] (5)
وربما كان أبو زكريا الفراء ( 207هـ) من أوائل من استعمل هذا المصطلح ، فقد استعمله في كتابه ( معاني القرآن ) ، في نحو قوله :[ وكذلك قوله : ( سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ) (6) فيه شيئ يرفع (سواء عليكم ) لا يظهر مع الإستفهام ، ولو قلت: سواء عليكم صمتكم ودعاؤكم ، تبين الرفع الذي في الجملة . ] (7)
وكان ابن هشام ( 761هـ) من أكثر النحويين عناية بالتفريق بين مصطلحي ( الكلام ) و(الجملة ) ، فهو أول من أفرد للجملة بابا في كل من كتابيه : ( مغني اللبيب )( ،
و( قواعد الإعراب )(9) ، مما دفع النحاة إلى تعريفها في مقدمة مؤلفاتهم ، قبل أن يشرعوا في دراسة مختلف عناصرها دراسة مفصلة .
ب- الجملة لغة : الجمل ( بضم الميم والجيم ) الجماعة من الناس . ويقال : جمل الشيء : جمعه . وقيل لكل جماعة غير منفصلة : جملة..(10) وجاءت الجملة في القرآن الكريم بمعنى الجمع .(11) ، قال تعالى : ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ..) (12)
ج – الجملة اصطلاحا :
تعددت مذاهب النحاة في تعريف الجملة ، فذهب بعضهم إلى أنها ترادف الكلام ، فكلاهما يفيد معنى يمكن الوقوف عنده ، ويعتبر ابن جني (13) ( 392هـ) وعبد القاهر الجرجاني (14)
( 471هـ) ، من القائلين بالترادف بين الجملة والكلام.
وقال ابن الحاجب : أبو عمرو عثمان بن عمر (646هـ ) بعدم الترادف (15).
ويتفق ابن هشام ( 761هـ) مع ابن الحاجب في ذلك ويقول : [ الكلام هو القول المفيد بالقصد ، والمراد بالمفيد : ما دل على معنى يحسن السكوت عليه ، والجملة عبارة عن الفعل وفاعله ، كقام زيد ، والمبتدا وخبره : كزيد قائم ، وماكان بمنزلة أحدهما . وبهذا يظهر لك أنهما ليسا بمترادفين كما توهم كثير من الناس ، وهو ظاهر قول صاحب المفصل ، فإنه بعد أن فرغ من حد الكلام قال : ويسمى : جملة . والصواب : أنها اعم منه ، إذ شرطه الإفادة بخلافها ، ولهذا تسمعهم يقولون : جملة الشرط ، وجملة الجواب ،وجملة الصلة ،وكل ذلك ليس مفيدا، فليس بكلام ] (16)
وإلى هذا المذهب نذهب ، وعلى ذلك ، فحد الجملة هو : ( قول مؤلف من مسند ومسند إليه )(17) ولا يشترط فيما نسميه جملة ، أو مركبا إسناديا أن يفيد معنى مكتفيا ، كما يشترط ذلك فيما نسميه كلاما .
المبحث الثاني
أ - أنواع الجملة :
جرى النحاة على تقسيم الجملة بحسب محلها الإعرابي إلى قسمين :
أ – حمل لها محل من الإعراب : - وهي التي يمكن أن تؤول بمفرد ، وتأخذ تلك الجملة إعراب ذلك المفرد . وسمي المفرد بهذه التسمية : لأنه ليس جملة ، ولا شبه جملة ، فهو غير مركب ، ويعرب مباشرة بعلامة الإعراب الأصلية ، سواء أكان مقداره واحدا ، أم مثنى ، أم جمعا . وقد اختلف النحاة في عدد الجمل التي لها محل من الإعراب ، وفيما يلي ذكر أشهرها : الجملة الواقعة خبرا ، والواقعة حالا ، والواقعة مفعولا ، والواقعة مضافا إليه ، والواقعة بعد الفاء أو إذا جوابا لشرط جازم ، والتابعة لمفرد ، والتابعة لجملة لها محل من الإعراب (18)
ب – جمل لا محل لها من الإعراب : وهي الجمل التي لا تحل محل المفرد ، ولا تؤول به ، ومن ثم لا يقال فيها إنها في موضع رفع ، أو نصب ، أو جر ، أو جزم ، وقد اختلف النحاة في عددها كذلك (19) ، وسأكتفي بذكر أشهرها . وهي : -
الجملة الإبتدائية ، الجملة المستأنفة ، الجملة المعترضة ( وهي صلب هذا البحث ) ، الجملة التفسيرية ، حملة جواب القسم ، الجملة الواقعة جوابا لشرط غير جازم ، أو جازم ، ولم تقترن بالفاء ، ولا بإذا الفجائية . الجملة الواقعة صلة لاسم أو حرف ، والجملة التابعة لجملة لا محل لها من الإعراب .
وقسم النحاة الجملة من حيث ما تبدأ به ، أو بحسب بنيتها اللفظية ، إلى قسمين كذلك :
اسمية ، وفعلية ، وذلك حسب صدورها ، والمراد بصدر الجملة : المسند ، والمسند إليه ،
ولا عبرة بما تقدم عليها من الحروف (20).
المبحث الثالث
الأغراض البيانية للجملتين : الاسمية ، والفعلية في القرآن الكريم :
أ – خصائص الجملة والكلمة القرآنية :
إن خير ما توصف به الجملة في القرآن ، أنها بناء قد أحكمت لبناته ، ونسقت أدق تنسيق ، لا تحس فيها بكلمة تضيق بمكانها ، أو ننبو عن موضعها ، أو لا تتعايش مع أخواتها ، حتى صار من العسير ، بل من المستحيل أن تغير كلمة بكلمة ، أو تستغني فيها عن لفظ ، أو أن تزيد فيها شيئا ، وصار قصارى أمر من يريد معارضة جملة في القرآن ، أن يرجع بعد طول المطاف إليها ، كأنما لم يخلق الله لأداء تلك المعاني ، غير ما اختاره القرآن لهذا الأداء .
قال ابن عطية : عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن ( 541هـ) : [ وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد ، ونحن يتبين لنا البراعة في أكثره ، ويخفى علينا وجهها في مواضع ، لقصورنا عن مرتبةالعرب يومئذ في سلامة الذوق ، وجودة القريحة ](21)
ويقول مصطفى صادق الرافعي : [ وإنك لتحار إذا تأملت تركيب القرآن ، ونظم كلماته في الوجوه المختلفة ، التي يتصرف فيها ، وتقعد بك العبارة إذا أنت حاولت أن تمضي في وصفه ، حتى لا ترى في اللغة كلها أدل على غرضك ، وأجمع لما في نفسك ، وأبين لهذه الحقيقة ، غير كلمة الإعجاز ……. إلى أن يقول :
فترى اللفظ قارا في موضعه ، لأنه الأليق في النظم ، ثم لأنه مع ذلك الأوسع في المعنى ، ومع ذلك الأقوى في الدلالة ، ومع ذلك الأحكم في الإبانة ، ومع ذلك الأبدع في وجوه البلاغة ، ومع ذلك الأكثر مناسبة لمفردات الآية ، مما يتقدمه أو يترادف عليه ...] (22).
والجملة القرآنية تتبع المعنى النفسي ، فتصوره بألفاظها لتلقيه في النفس ، حتى إذا استكملت الجملة أركانها ، برز المعنى ظاهرا ، فليس تقديم كلمة على أخرى صناعة لفظية فحسب ، ولكن المعنى هو الذي جعل ترتيب الجملة ضرورة لا محيد عنه ، وإلا اختل وانهار .
خذ مثلا قوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) (23) تجد إسماعيل معطوفا على إبراهيم ، فهو كأبيه يرفع القواعد من البيت ، ولكن تأخره في الذكر يوحي بأن دوره في رفع القواعد دور ثانوي ، أما الدور الأساس فقد قام به إبراهيم . قال في الكشاف : [ قيل : كان إبراهيم يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ] (24)
وفي قوله تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) (25) [ تجد المستعان عليه في الآية غير مذكور ، لا تخففا من ذكره ، ولكن ليوحي هذا الحذف إلى النفس أن كل ما يقوم أمام المرء من مشقة ، وما يعترضه من صعوبات ، يستعان على التغلب عليه بالصبر والصلاة . ](26)
ب- دراسة تطبيقية لاستخدام القرآن للجملة بنوعيها :
تتألف الجملة – كما أسلفنا - من ركنين رئيسين هما : المسند ، والمسند إليه . وهذان الركنان هما عمدة الكلام .
ويظهر تأليف الجملة – تبعا للمسند - بصورتين : فعل مع اسم ، أواسم مع اسم ، وبالتعبير الإصطلاحي : فعل وفاعل ، أو نائبه ، أو : مبتدأ وخبر ، نحو : أقبل سعيد ، وسعيد مقبل ، وكل التعبيرات الأخرى ، إنما هي صور أخرى لهذين الأصلين .
والصورة الأساسية للجمل التي مسندها فعل ، أن يتقدم الفعل على المسند إليه ، ولا يتقدم المسند إليه على الفعل إلا لغرض يقتضيه المقام .
والصورة الأساسية للجمل التي مسندها اسم ، أن يتقدم المسند إليه على المسند ، أو بتعبير آخر أن يتقدم المبتدأ على الخبر ، ولا يتقدم الخبر إلا لسبب يقتضيه المقام ، أو طبيعة الكلام .
والفرق بين هاتين الصورتين : أن الجملة التي مسندها فعل إنما تدل على الحدوث ، تقدم الفعل أو تأخر ، وقد تفيد الإستمرار بالقرائن ، وهذا يكون في الفعل المضارع فقط ،
كما في قوله تعالى : ( هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض .. ) (27) ،
فالرزق من الله متجدد ومستمر ، لا ينقطع ولا يزول.
أما الجملة التي مسندها اسم : فإنها تدل على الثبوت ، وربما تفيد الدوام بالقرائن .(28) وإذا كان وضع الجملة الاسمية على إفادة الثبوت ، ووضع الجملة الفعلية على إفادة التجدد ، فإن الجملة الاسمية تدل على معنى أوفى مما تدل عليه الجملة الفعلية ، ولهذا ذهب البلغاء إلى أن الجملة الاسمية تفيد تاكيد المعنى ، وقدتؤثر من أجل هذا في بعض المقامات على الجملة الفعلية (29)
وقد يعدل القرآن أحيانا عن الفعل إلى الاسم ، فقد يكون الأصل أن يعبر عن الحدث بالفعل ، ومع ذلك يؤتى بالاسم للدلالة على الثبوت . قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة )(30) فهو لم يجعله بعد ، ولكن ذكره بصيغة اسم الفاعل للدلالة على أن الأمر حاصل لا محالة ، فكأنه تم ، واستقر ، وثبت .
ومن جميل استعمال القرآن للفعل والاسم :
أنه يستعملهما استعمالا مناسبا مع وقوع الحدث في الحياة ، فإذا كان مما يتكرر حدوثه ويتجدد استعماله ، استعمله بالصورة الفعلية ، وإن لم يكن كذلك استعمله بالصورة الاسمية .
فمن ذلك مثلا :[ استعمال القرآن للفعل ( ينفق ) ، فإنه يستعمله بالصيغة الفعلية ، لأن الإنفاق أمر يتكرر ويحدث باستمرار ، قال تعالى : ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )(31) ، فاستعمل الفعل المضارع الدال على التجدد والحدوث ، لأن الإنفاق أمر يتجدد . ولم ترد بالصورة الاسمية إلا في آية واحدة ، هي قوله تعالى : ( الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار.)(32) وهو في سياق أوصاف المؤمنين الدالة على الثبات .] (33)
ومن ذلك : [ قوله تعالى : (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ..) (34) فاستعمل الفعل مع الحي ، فقال : ( يخرج ) ، واستعمل الاسم مع الميت ، فقال : ( مخرج ) ، وذلك لأن أبرز صفات الحي : الحركة والتجدد ، فجاء معه بالصيغة الفعلية الدالة على الحركة والتجدد , ولأن الميت في حالة همود وسكون وثبات ، فجاء معه بالصيغةالاسمية الدالة على الثبات ، فقال ( ومخرج الميت من الحي ) .
وقد يقول قائل : ولماذا قال في سورة آل عمران : ( تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ..) (35) بالصيغة الدالة على التجدد في الحالتين ، فنقول: إن السياق في آل عمران يختلف عنه في الأنعام ،وذلك أن السياق في آل عمران هو في التغير والحدوث ،والتجدد عموما ، فالله سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ، أو ينزعه منه ، ويعز من يشاء أو يذله ، ويغير الليل والنهار ، ويخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، فالسياق كله حركة ، وغيير ،وتبديل ، فجاء بالصيغة الدالة على التجدد والتغير والحركة ، فوضع كل صفة في المكان اللائق بها .](36)
ومما أوردناه ندرك أن الجملة القرآنية قد تكونت من كلمات قد اختيرت بعناية ، ثم نسقت في سلك واحد ، فلا ضعف في تأليف ، ولا تعقيد في نظم ، ولكن حسن تنسيق ، ودقة ، وترتيب .
-يتبع -
إن البحث في اصطلاح الجملة ، والتأريخ له ، أمران لازمان لمن يتصدى لدراسة الجملة العربية ، فالجملة هي لبنة الكلام المرسل وغير المرسل (1) وعنصر الكلام الأساسي ، فبالجمل نتكلم ، وبالجمل نفكر ، بل هي (قواعد الحديث ) (2). ومن الثابت أن مفهوم الجملة عند بعض قدامى النحويين كان ملتبسا بمفهوم الكلام ، ولم يكن ثمة فصل بين المفهومين ، وقد نص غير واحد منهم على أن الكلام هو الجملة ، قال الزمخشري ( 538هـ) في المفصل : ( والكلام : هو المركب من كلمتين ، أسندت إحداهما إلى الأخرى ، وهذا لا يتأتى إلا في اسمين ، أو في فعل واسم ، ويسمى الجملة )(3 وذهب ابن يعيش ( 643هـ) في شرحه ، مذهب الزمخشري في التوحيد بين مفهومي الكلام والجملة ، فقال :[ ومما يسأل عنه هنا ، الفرق بين الكلام ، والقول ، والكلم ، والجواب : أن الكلام عبارة عن الجمل المفيدة ، وهو جنس لها ، فكل واحدة من الجمل الفعلية ، والاسمية ، نوع له ، يصدق إطلاقه عليها ، كما أن الكلمة جنس للمفردات ] (4)
ولم يعن ابن مالك ( 672هـ) في ألفيته إلا بالكلام ، فقال :
[كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم .
وكذلك شراح الألفية ] (5)
وربما كان أبو زكريا الفراء ( 207هـ) من أوائل من استعمل هذا المصطلح ، فقد استعمله في كتابه ( معاني القرآن ) ، في نحو قوله :[ وكذلك قوله : ( سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ) (6) فيه شيئ يرفع (سواء عليكم ) لا يظهر مع الإستفهام ، ولو قلت: سواء عليكم صمتكم ودعاؤكم ، تبين الرفع الذي في الجملة . ] (7)
وكان ابن هشام ( 761هـ) من أكثر النحويين عناية بالتفريق بين مصطلحي ( الكلام ) و(الجملة ) ، فهو أول من أفرد للجملة بابا في كل من كتابيه : ( مغني اللبيب )( ،
و( قواعد الإعراب )(9) ، مما دفع النحاة إلى تعريفها في مقدمة مؤلفاتهم ، قبل أن يشرعوا في دراسة مختلف عناصرها دراسة مفصلة .
ب- الجملة لغة : الجمل ( بضم الميم والجيم ) الجماعة من الناس . ويقال : جمل الشيء : جمعه . وقيل لكل جماعة غير منفصلة : جملة..(10) وجاءت الجملة في القرآن الكريم بمعنى الجمع .(11) ، قال تعالى : ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ..) (12)
ج – الجملة اصطلاحا :
تعددت مذاهب النحاة في تعريف الجملة ، فذهب بعضهم إلى أنها ترادف الكلام ، فكلاهما يفيد معنى يمكن الوقوف عنده ، ويعتبر ابن جني (13) ( 392هـ) وعبد القاهر الجرجاني (14)
( 471هـ) ، من القائلين بالترادف بين الجملة والكلام.
وقال ابن الحاجب : أبو عمرو عثمان بن عمر (646هـ ) بعدم الترادف (15).
ويتفق ابن هشام ( 761هـ) مع ابن الحاجب في ذلك ويقول : [ الكلام هو القول المفيد بالقصد ، والمراد بالمفيد : ما دل على معنى يحسن السكوت عليه ، والجملة عبارة عن الفعل وفاعله ، كقام زيد ، والمبتدا وخبره : كزيد قائم ، وماكان بمنزلة أحدهما . وبهذا يظهر لك أنهما ليسا بمترادفين كما توهم كثير من الناس ، وهو ظاهر قول صاحب المفصل ، فإنه بعد أن فرغ من حد الكلام قال : ويسمى : جملة . والصواب : أنها اعم منه ، إذ شرطه الإفادة بخلافها ، ولهذا تسمعهم يقولون : جملة الشرط ، وجملة الجواب ،وجملة الصلة ،وكل ذلك ليس مفيدا، فليس بكلام ] (16)
وإلى هذا المذهب نذهب ، وعلى ذلك ، فحد الجملة هو : ( قول مؤلف من مسند ومسند إليه )(17) ولا يشترط فيما نسميه جملة ، أو مركبا إسناديا أن يفيد معنى مكتفيا ، كما يشترط ذلك فيما نسميه كلاما .
المبحث الثاني
أ - أنواع الجملة :
جرى النحاة على تقسيم الجملة بحسب محلها الإعرابي إلى قسمين :
أ – حمل لها محل من الإعراب : - وهي التي يمكن أن تؤول بمفرد ، وتأخذ تلك الجملة إعراب ذلك المفرد . وسمي المفرد بهذه التسمية : لأنه ليس جملة ، ولا شبه جملة ، فهو غير مركب ، ويعرب مباشرة بعلامة الإعراب الأصلية ، سواء أكان مقداره واحدا ، أم مثنى ، أم جمعا . وقد اختلف النحاة في عدد الجمل التي لها محل من الإعراب ، وفيما يلي ذكر أشهرها : الجملة الواقعة خبرا ، والواقعة حالا ، والواقعة مفعولا ، والواقعة مضافا إليه ، والواقعة بعد الفاء أو إذا جوابا لشرط جازم ، والتابعة لمفرد ، والتابعة لجملة لها محل من الإعراب (18)
ب – جمل لا محل لها من الإعراب : وهي الجمل التي لا تحل محل المفرد ، ولا تؤول به ، ومن ثم لا يقال فيها إنها في موضع رفع ، أو نصب ، أو جر ، أو جزم ، وقد اختلف النحاة في عددها كذلك (19) ، وسأكتفي بذكر أشهرها . وهي : -
الجملة الإبتدائية ، الجملة المستأنفة ، الجملة المعترضة ( وهي صلب هذا البحث ) ، الجملة التفسيرية ، حملة جواب القسم ، الجملة الواقعة جوابا لشرط غير جازم ، أو جازم ، ولم تقترن بالفاء ، ولا بإذا الفجائية . الجملة الواقعة صلة لاسم أو حرف ، والجملة التابعة لجملة لا محل لها من الإعراب .
وقسم النحاة الجملة من حيث ما تبدأ به ، أو بحسب بنيتها اللفظية ، إلى قسمين كذلك :
اسمية ، وفعلية ، وذلك حسب صدورها ، والمراد بصدر الجملة : المسند ، والمسند إليه ،
ولا عبرة بما تقدم عليها من الحروف (20).
المبحث الثالث
الأغراض البيانية للجملتين : الاسمية ، والفعلية في القرآن الكريم :
أ – خصائص الجملة والكلمة القرآنية :
إن خير ما توصف به الجملة في القرآن ، أنها بناء قد أحكمت لبناته ، ونسقت أدق تنسيق ، لا تحس فيها بكلمة تضيق بمكانها ، أو ننبو عن موضعها ، أو لا تتعايش مع أخواتها ، حتى صار من العسير ، بل من المستحيل أن تغير كلمة بكلمة ، أو تستغني فيها عن لفظ ، أو أن تزيد فيها شيئا ، وصار قصارى أمر من يريد معارضة جملة في القرآن ، أن يرجع بعد طول المطاف إليها ، كأنما لم يخلق الله لأداء تلك المعاني ، غير ما اختاره القرآن لهذا الأداء .
قال ابن عطية : عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن ( 541هـ) : [ وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد ، ونحن يتبين لنا البراعة في أكثره ، ويخفى علينا وجهها في مواضع ، لقصورنا عن مرتبةالعرب يومئذ في سلامة الذوق ، وجودة القريحة ](21)
ويقول مصطفى صادق الرافعي : [ وإنك لتحار إذا تأملت تركيب القرآن ، ونظم كلماته في الوجوه المختلفة ، التي يتصرف فيها ، وتقعد بك العبارة إذا أنت حاولت أن تمضي في وصفه ، حتى لا ترى في اللغة كلها أدل على غرضك ، وأجمع لما في نفسك ، وأبين لهذه الحقيقة ، غير كلمة الإعجاز ……. إلى أن يقول :
فترى اللفظ قارا في موضعه ، لأنه الأليق في النظم ، ثم لأنه مع ذلك الأوسع في المعنى ، ومع ذلك الأقوى في الدلالة ، ومع ذلك الأحكم في الإبانة ، ومع ذلك الأبدع في وجوه البلاغة ، ومع ذلك الأكثر مناسبة لمفردات الآية ، مما يتقدمه أو يترادف عليه ...] (22).
والجملة القرآنية تتبع المعنى النفسي ، فتصوره بألفاظها لتلقيه في النفس ، حتى إذا استكملت الجملة أركانها ، برز المعنى ظاهرا ، فليس تقديم كلمة على أخرى صناعة لفظية فحسب ، ولكن المعنى هو الذي جعل ترتيب الجملة ضرورة لا محيد عنه ، وإلا اختل وانهار .
خذ مثلا قوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) (23) تجد إسماعيل معطوفا على إبراهيم ، فهو كأبيه يرفع القواعد من البيت ، ولكن تأخره في الذكر يوحي بأن دوره في رفع القواعد دور ثانوي ، أما الدور الأساس فقد قام به إبراهيم . قال في الكشاف : [ قيل : كان إبراهيم يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ] (24)
وفي قوله تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) (25) [ تجد المستعان عليه في الآية غير مذكور ، لا تخففا من ذكره ، ولكن ليوحي هذا الحذف إلى النفس أن كل ما يقوم أمام المرء من مشقة ، وما يعترضه من صعوبات ، يستعان على التغلب عليه بالصبر والصلاة . ](26)
ب- دراسة تطبيقية لاستخدام القرآن للجملة بنوعيها :
تتألف الجملة – كما أسلفنا - من ركنين رئيسين هما : المسند ، والمسند إليه . وهذان الركنان هما عمدة الكلام .
ويظهر تأليف الجملة – تبعا للمسند - بصورتين : فعل مع اسم ، أواسم مع اسم ، وبالتعبير الإصطلاحي : فعل وفاعل ، أو نائبه ، أو : مبتدأ وخبر ، نحو : أقبل سعيد ، وسعيد مقبل ، وكل التعبيرات الأخرى ، إنما هي صور أخرى لهذين الأصلين .
والصورة الأساسية للجمل التي مسندها فعل ، أن يتقدم الفعل على المسند إليه ، ولا يتقدم المسند إليه على الفعل إلا لغرض يقتضيه المقام .
والصورة الأساسية للجمل التي مسندها اسم ، أن يتقدم المسند إليه على المسند ، أو بتعبير آخر أن يتقدم المبتدأ على الخبر ، ولا يتقدم الخبر إلا لسبب يقتضيه المقام ، أو طبيعة الكلام .
والفرق بين هاتين الصورتين : أن الجملة التي مسندها فعل إنما تدل على الحدوث ، تقدم الفعل أو تأخر ، وقد تفيد الإستمرار بالقرائن ، وهذا يكون في الفعل المضارع فقط ،
كما في قوله تعالى : ( هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض .. ) (27) ،
فالرزق من الله متجدد ومستمر ، لا ينقطع ولا يزول.
أما الجملة التي مسندها اسم : فإنها تدل على الثبوت ، وربما تفيد الدوام بالقرائن .(28) وإذا كان وضع الجملة الاسمية على إفادة الثبوت ، ووضع الجملة الفعلية على إفادة التجدد ، فإن الجملة الاسمية تدل على معنى أوفى مما تدل عليه الجملة الفعلية ، ولهذا ذهب البلغاء إلى أن الجملة الاسمية تفيد تاكيد المعنى ، وقدتؤثر من أجل هذا في بعض المقامات على الجملة الفعلية (29)
وقد يعدل القرآن أحيانا عن الفعل إلى الاسم ، فقد يكون الأصل أن يعبر عن الحدث بالفعل ، ومع ذلك يؤتى بالاسم للدلالة على الثبوت . قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة )(30) فهو لم يجعله بعد ، ولكن ذكره بصيغة اسم الفاعل للدلالة على أن الأمر حاصل لا محالة ، فكأنه تم ، واستقر ، وثبت .
ومن جميل استعمال القرآن للفعل والاسم :
أنه يستعملهما استعمالا مناسبا مع وقوع الحدث في الحياة ، فإذا كان مما يتكرر حدوثه ويتجدد استعماله ، استعمله بالصورة الفعلية ، وإن لم يكن كذلك استعمله بالصورة الاسمية .
فمن ذلك مثلا :[ استعمال القرآن للفعل ( ينفق ) ، فإنه يستعمله بالصيغة الفعلية ، لأن الإنفاق أمر يتكرر ويحدث باستمرار ، قال تعالى : ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )(31) ، فاستعمل الفعل المضارع الدال على التجدد والحدوث ، لأن الإنفاق أمر يتجدد . ولم ترد بالصورة الاسمية إلا في آية واحدة ، هي قوله تعالى : ( الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار.)(32) وهو في سياق أوصاف المؤمنين الدالة على الثبات .] (33)
ومن ذلك : [ قوله تعالى : (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ..) (34) فاستعمل الفعل مع الحي ، فقال : ( يخرج ) ، واستعمل الاسم مع الميت ، فقال : ( مخرج ) ، وذلك لأن أبرز صفات الحي : الحركة والتجدد ، فجاء معه بالصيغة الفعلية الدالة على الحركة والتجدد , ولأن الميت في حالة همود وسكون وثبات ، فجاء معه بالصيغةالاسمية الدالة على الثبات ، فقال ( ومخرج الميت من الحي ) .
وقد يقول قائل : ولماذا قال في سورة آل عمران : ( تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ..) (35) بالصيغة الدالة على التجدد في الحالتين ، فنقول: إن السياق في آل عمران يختلف عنه في الأنعام ،وذلك أن السياق في آل عمران هو في التغير والحدوث ،والتجدد عموما ، فالله سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ، أو ينزعه منه ، ويعز من يشاء أو يذله ، ويغير الليل والنهار ، ويخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، فالسياق كله حركة ، وغيير ،وتبديل ، فجاء بالصيغة الدالة على التجدد والتغير والحركة ، فوضع كل صفة في المكان اللائق بها .](36)
ومما أوردناه ندرك أن الجملة القرآنية قد تكونت من كلمات قد اختيرت بعناية ، ثم نسقت في سلك واحد ، فلا ضعف في تأليف ، ولا تعقيد في نظم ، ولكن حسن تنسيق ، ودقة ، وترتيب .
-يتبع -